يقول المصنف رحمه الله: "ولهذا لم يحك الله سبحانه وتعالى عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به"، ولو أن أي أمة من الأمم سألت نبيها عن الحكمة -سؤالاً اعتراضياً- لما كانت مؤمنة، فلو أن قائلاً قال: أريد أن أفهم لماذا كانت صلاة الفجر ركعتين والظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً؟
ولنفترض أننا أخبرناه بأن هناك حكمة، ثم سأل: لماذا نصوم رمضان؟ فأخبرناه بوجود علة... وهكذا على كل شيء يريد علة، فأين عبوديته لله؟! ليس هناك عبودية؛ لأن العبودية أن يستسلم الإنسان وينقاد ويذعن لأمر الله.
ولو سأل سائل يؤمن بذلك ويقر ويذعن، وقال: اذكروا لي بعض ما يخفى علي من حِكَم صلاة الجماعة، فقلنا له: صلاة الجماعة فيها من الخير: اجتماع المسلمين، وتفقد أحوالهم، وتكثير سوادهم، والتعاون على البر والتقوى، وذكرنا له هذه الأمور، فإن هذا شيء حسن؛ لأنه يريد الاستعلام والإيضاح فأوضحنا له، أما الذي يسأل على سبيل الشك أو على سبيل الاعتراض فسؤاله هو الذي يتنافى مع مقام العبودية.
يقول المصنف رحمه الله: "فلو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها"، وهذا -كما ذكرنا- موجود في من يقولون: نعرض ديننا على العقل، فإن قبله آمنا به! ولو أن الأعراب الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليهم الدين؛ قالوا له: نرجع إلى قومنا، فنعرض الأمر عليهم، فإن آمنوا آمنا، وإن لم يؤمنوا لم نؤمن، فلن يكون هؤلاء مؤمنين ولا مسلمين؛ فكذلك لو قال الإنسان: أنا مسلم، ولكن لا أومن بشيء حتى أعرضه على عقلي، فلو آمن به بعد ذلك، فإنما ذلك لأنه عرضه على عقله ووافقه، أما إذا لم يوافق عليه عقله فلن يؤمن..! فأين إيمانه إذن؟! هذا ليس بإيمان؛ بل هو مثل قول أولئك الأعراب الذين قالوا: نعرض الأمر على شيخ قبيلتنا، فإذا وافق قبلناه وإلا رددناه.
وهذا داء عظيم تسرب إلى الأمة الإسلامية؛ ففي باب العقائد يقول من جاءته الأدلة على إثبات صفات الله: نعرضها على العقل وعلى القواعد والبراهين المنطقية والجدلية، وفي باب الأحكام كذلك يقول من أتاه الدليل الصحيح: أنتظر حتى أراجع المذهب وشيوخ المذهب؛ مع أنه قد جاءه الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن بالحديث، ولن يؤمن به إلا إذا وجد أنه معمول به في المذهب، وإن لم يجده قال: هذا إما ضعيف أو منسوخ؛ لأنه لا يمكن أن يخفى على علماء المذهب أو على إمام المذهب! فهذا شبيه بذاك -نسأل الله العفو والعافية- لأن أمرهما مبني على عدم التسليم والانقياد والإذعان، والله سبحانه وتعالى يقول: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65] أي: تسليماً كاملاً، أما من قال: حتى أراجع أو أنظر، فهذا لم يسلم.. لكن يحق له المراجعة في حالة واحدة؛ وهي إذا أراد أن يتأكد من صحة الحديث، فهذا لا يدخل في هذا الباب، فإذا تبين أنه حكم الله أو حكم رسوله فلا اعتراض وهذا مقام الإيمان؛ فالتأكد حق وهو من الدين، ولا بد أن يعرف المسلم عمن يأخذ دينه.
إن المصيبة أن الأمر أكبر من ذلك، وأكبر مما يظن؛ فالله تبارك وتعالى قد حرم الخمر والزنا واختلاط الرجال بالنساء، وإذا بقائل يقول: لا نقر تحريم الخمر أو الزنا أو الاختلاط حتى نعرض الأمر على مجلس البرلمان أو الأمة أو غيره... فهل هذا انقياد لحكم الله؟! وهل هذا مقتضى العبودية لله؟! يأمر الله وهم يقولون: لا نفعله حتى نراجع البرلمان والدساتير!
ففي هذه الحالة تكون العبودية لهذه الأسماء وليست لله.. تعطي لها صفة الألوهية التي هي خالصة لله تعالى، وهذا هو عين ما فعلته الأمم قبلنا؛ من الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ولهذا يقال: (مبنى العبودية على الاستسلام والانقياد والإذعان لأمر الله سبحانه وتعالى)، فلا تعترض عليه ولا تقول: لم؟! وكيف؟! على سبيل الرد.